السبت، يناير 06، 2018

----"في عربة المترو"---- (قصة قصيرة)




"بكاء طفل صغير ...
هدير المحركات ..
صوت تلاوة آيات بنغمة رتيبة ...
نقاش يحتدم في احدى زوايا عربة المترو..
صوت احتكاك عجلات المترو بالقضان.."

امتزجت تلك الأصوات جميعا لتصنع كوكتيلا صاخب الطعم ، يُصب في أذن كل راكب جديدٍ غصباً ..
فيما كانت هي تحاول التركيز , لتقتنص كلمات زميلتها بالأمس ووصاياها لتلك المقابلة المنتظرة.

"الثبات الانفعالي .. الثقة بالنفس ، والاجابات المبتكرة.. لا تنسي يا سلوى"

مرت في ذهنها هذه الكلمات ، وهي تراقب اقتحام الفوج الثانى من كتل اللحم البشري لعربة المترو ، فأجبرها ذلك على التراجع بضع خطوات للخلف ، حتى كادت تصطدم بالشاب الواقف خلفها إلا أنه انتقل من مكانه في اللحظة الأخيرة مفسحا لها المجال لتنزوي في ذلك الركن ، وتتشبث بالقائم الحديدي ، لتقاوم تلك الاهتزازة التى نتجت عن الاقتحام ..

بالرغم من أنها لم تركب المترو إلا منذ عدة دقائق إلا أنها كانت تنتظر انفتاح بابه في كل محطة بلهفة المختنق إلى جرعة واحدة من هواء؛ لتتنسم من تلك الدفقات الباردة التى تنساب إلى الداخل من الأجواء الخارجية ، وتزداد تشبثا بالقائم الحديدى ليمتص منه جلدها البروده فيقاوم ذلك الصهد المنبعث من المروحة المعلقة في السقف وكأنها تبث هواء من كوة خلفها تفتح على الجحيم مباشرة ..

اجتهدت مرة أخرى لتندمج في عالمها الداخلي وترسم صورة تلك المقابلة ، وتتخيل الأسئلة ، وترد عليها بثبات وثقة... لقد أتى غلاء الأسعار على الأخضر واليابس والذي ولولاه لما تجشمت عبء ذلك السعي الحثيث لإيجاد مصدر أفضل للمال.. ولو أنها لاقت فارس أحلامها .. لخلدت إلى الراحة ولم يكن أمر المال ليشغلها من الأساس.

"اتفضلي اقعدي ياطنط..!"
ابتسمت ابتسامة باهتة لتلك الطفلة التى أتاحت لها المجال لتجلس على أحد المقاعد وشكرتها بكلمات مقتضبة..
"طنط.. طنط إيه ياختى !!" اطلقت تلك الصرخة في ذهنها مستنكرة تلك الصفة ، وهي تتابع سنوات عمرها الثلاثون تمر أمام عينيها كفرس يطلق العنان لساقيه في سباق مع الزمن .. وتملكتها مشاعر الحسرة الممزوجة بالأسى وهي تستقر على المقعد في صمت .. ثم ما لبثت أن لملمت تلك المشاعر ، وأعادتها برفق إلى قلبها .. فليس الآن وقتها ..

انسحبت برفق لتنزوي في جانب المقعد بعد أن شعرت بالتلامس اللصيق بينها وبين ذلك الجالس إلى جوارها ، ولفت انتباهها ملابس تلك الفتاة الجالسة في مقابلتها .. البلوزة سماوية اللون ، البنطال الكحلي اللون .. كانت كمن تنظر في مرآه مع اختلاف في لون الحذاء وشكله ..
"هل تذهب إلى نفس المقابلة؟" تولد السؤال في ذهنها فراجعت الإعلان .. ليس ثمة ذكر لملابس معينة ..

انطلقت صافرة العربة لتعلن الدخول إلى المحطة التالية لتنتزعها من بين أمواج أفكارها المتلاطمة ، فنهضت في سرعة وهي تحتضن حقيبتها ، واستسلمت للتيار البشري الذي لفظته العربة خارجها في قوة والذي لم يخل من بعض الملامسات غير المرغوبة..

بعد أن تحررت من تلك الأغلال الجماعية ..
توقفت للحظات لتملأ رئتيها بالهواء البارد ، وتعدل من هندامها الذي دهسته الجموع خلال احتكاكهم الغاشم ..
ثم انطلقت بخطى واثقة ..
نحو أملها الجديد..
( ابوالفداء 5/10/2017 )

ليست هناك تعليقات: