السبت، يناير 06، 2018

--((الفاترينة))-- "قصة قصيرة"



واقفة على الرصيف ، تلتف يمينا ويسار ، ترقب حركة السيارات التى تروح وتجيء أمامها في سرعه ..
انها صورة مصغرة للمشاعر والحياة ...
مشاعر تأتي مسرعة فتصدمنا ،وأخرى تمر بطيئة كئيبة ، تلمح شاحنة من بعيد .. تلك هي المصائب ..نعم .. ان طريق السيارات هذا لهو معنى الحياة متجسدا ..

الطريق خال من السيارات الان .. تحث الخطى للعبور مسرعة ، وهي تتلفت بحذر ، كالفريسة تطلق لسيقانها العنان أمام وحش كاسر ..

في اللحظة التالية كانت على الجهة المقابلة للطريق ، وما إن نفضت من رأسها ذلك ذلك الصراع المحتدم أثناء عبورها واعتدلت في استعداد للانطلاق حتى انتابتها مشاعر لم تعرف مصدرها ، شيء لمحته .. رائحة داعبت أنفها .. أم هي فكرة جاءتها على حين غرة ..
وما إن اقامت رأسها حتى اتضحت الأمور .. نعم .. انها تلك الفاترينه التى لمحتها قبل أن تخوض ذلك الصراع المثير مع السيارات المسرعة للوصول إلى الجانب الآخر من الشارع، لقد لمحتها لثانية واحدة خلال التفاتة قلقة لمراقبة سيارة جميلة مسرعة ، فأنساها منظر السيارة تلك الثانية .

اقتربت بخطى وئيدة من الفاترينة ، كمن يتحسس طريقه إلى كهف مظلم مجهول ، أو كمن ينتظر رسالة تحمل خبرا ينتظره لكنه لا يجرؤ على فتحها .. فالرسائل هي أيقونات للمشاعر ، إما أن تنفجر فيك فتمزق قلبك ، أو أن تغمرك بلفيف من المشاعر الصادقة الحانية ..

نعم .. إنها تلك الفاترينة .. وتحديدا تلك القطع القماشية المعروضة بها - ذات اللون الأبيض- ...
الألوان تعني الكثير عادة ، هي كذلك تمثل الحياة بتقلباتها ..
الملعقة مصنوعة من الحديد وتقلب السوائل فتمزجها ، والألوان ماهي إلا طاقات تقلب المشاعر وتمزجها..

نعم .. إنه ذلك الفستان الأبيض ..
ما إن استقرت قدمها أمام الفاترينة ، حتى انفجرت في رأسها شلالات الذكريات ..
مشاعر .. روائح .. ألوان .. كلمات .. أصوات

"أحبك.. يا مليكة قلبي"
انسابت تلك الكلمات من بين شفته ، لتداعب أذنها وهي تتعلق بذراعه ، فطار قلبها فرحا ، وحلق في الأجواء ممتزجا بتلك الزغاريد التى تدوي في المكان متصلة دون انقطاع .. فازدادت تشبثا بذراعة تضمه إلى قلبها كأم تخشى على وليدها من الضياع في أرض الوحوش ..
إنه ذلك اليوم الأسعد على الإطلاق في حياتها ، وفي حياة كل البنات الصغيرات ، كلهن ينتظرنه ويرسمنه في خيالاتهن ، ويهمن به ، ..
الفستان الأبيض والبذلة السوداء ، إنه ذلك المزيج الذي يحمل أقصى الألوان، فالأبيض هو الأول ، والأسود هو الأخير ، وما إن يجتمعا حتى يولدا جميع الألوان والمشاعر فيما بينهما ..

"الف مبروك ياعروسة"
تنسال عبر مسامعها من حين لآخر من مهنىء اعتلى المنصة ، ليسلم على العروسين ، فتزيدها هياما ..

قبلات من صديقاتها وأحضان لمباركة الزفاف السعيد..
أصوات الموسيقى - الصاخبة أحيانا والهادئة أحيانا- تلف المكان ، فيتنشي الجميع وتتقاذفهم المشاعر فتهتز الأجساد رغما عنها كأجساد المتمايلين في حضرة صوفيه ..

سواد مطبق ..
كانت تلك الصورة هي التى احتلت سماء فكرها في الثانية التالية .. لم تكن تزحف ، أو تتسلل تدريجيا ..
أو حتى لا يمكن أن أن يصفها كلمة " هجوم " فالهجوم لده درجات وإنذارات ..
ربما تكون الكلمة الوحيدة التى تصف ذلك السواد هي "الموت" .. نعم .. هو ذلك الوحيد الذي لا يستأذن أو ينذر أو ينتظر باباً ليفتح .. بل .. يصبح أمرا واقعا قبل أم تحاول نطق الحرف الأول من كلماته..
سنة من الحياة الهانئة السعيدة .. اقتلعتها تلك الكلمة من جذورها..
"البقية في حياتك يا سناء.. محمد ..تعيشي انتى "!!!!!!!!!
متى ؟ كيف ؟ لماذا ؟ من ؟ ما؟ أين؟ ....
كل الأسئلة ظلت تتشاجر في أعماقها في تلك اللحظة ..
تنهش قلبها بلا رحمة ..
وبلا إجابة أيضا..

فجأة أظلمت الأنوار ، اجتُثت المشاعر ، توقف الزمن ، انعدمت الاستجابات ، انحبست الأنفاس ، مرارة يغص بها الحلق وتنتشر في الجسد ، فتقعده عن الحركة..

"البقية في حياتك ياحبيبتى"
لم يعد هناك منبع تنهل منه الدموع ، فتوقفت ..
الأيادي تسلم عليها في تتابع رتيب ..
أحضان تكتنفها من حين لأخر ..
المشاعر جميعا .. تم اختصارها في نوع واحد
"الحزن ثم الحزن ثم الحزن"

"مالك يا حبيبتى.. فيه حاجة؟؟"
هزات خفيفة ، كان منبعها كتفها..
تلك اليد التى تربت على كتفها ..
تعود صورة الفاترينة لتحتل الرؤية أمام عينيها ، مهتزة ،من أثر دمعات غزيرة ملأت مآقيها..
تلتقط نفسا عميقا كشخص خرج للتو من بحر لجي مظلم بعد ساعات من كتم الأنفاس..
وتلتفت لتلك المرآه العجوز .. وهي تهز رأسها نفيا ..
دون كلمة واحدة.. لملمت شتات ذكرياتها المتناثرة حولها ..
واستدارت لتكمل طريقها إلى البيت..
وطريقها في الحياة..
((أبو الفداء / 2017))

ليست هناك تعليقات: